نظم عدد من الأشخاص بمدينة مالمو مساء يوم السبت الماضي مظاهرة ضد معاداة السامية، شارك فيها كل من وزيرة المساواة ووزيرة الهجرة، وهي مناسبة نغتنمها للتأكيد على حقائق لعل أهمها أن الحريات الفردية في السويد تعد من القيم التي لا تتنازل عنها هذه الدولة الاسكندنافية، بل إن أي سلوك يهدد الحرية والديموقراطية يعتبر بالنسبة للسويديين مساساً مباشراً بأمنهم القومي.
والحرية الدينية جزء من الحريات العامة، وعلى هذا الأساس فإن اليهود والمسيحيين والمسلمين أحرار في ممارسة طقوسهم، وإعمار أماكن التعبد الخاصة بهم، مع ضرورة الاستحضار الدائم للشرط الذي يعلو على الجميع ألا وهو احترام قوانين البلد وقيمه، وعدم السعي لتقويضها أو الإساءة إليها، لأنها في النهاية قيم ترسخت قروناً، وتوارثتها أجيال بعد أجيال، حتى شكلت الهوية والثقافة السويدية الحالية.
ولعل أهم هذه القيم هي احترام الآخر، وعدم المساس بأمنه المادي والمعنوي، ومن هذا المنطلق فإن جميع العقلاء يرفضون الإساءة إلى اليهود، أو معاداتهم، أو تأليب الرأي العام ضدهم، تحت أي مبرر كان، ولا علاقة لهذه الخصال النبيلة بنزاعات الشرق الأوسط وحروبه، لأن اليهودي صاحب اختيار شخصي، وهو ينتمي في النهاية لفئة أو طائفة أصيلة من المجتمع السويدي أو غيره من المجتمعات.
ولا ينبغي أن نتغافل عن حقيقة تاريخية، وهي أن اليهود تعرضوا أثناء الحرب العالمية الثانية لمذابح ومحارق عانى منها مئات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن، وسجلها التاريخ، فظلت وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء، كما لا ينبغي أن نتغافل أيضاً عن الدور المشرف لمسيحيين ولمسلمين في الدفاع عن اليهود أيام محنتهم، وهنا أود التأكيد على أن المحرقة النازية أظهرت عن نماذج مشرفة لدى العديد من الشعوب وقياداتها، لا لانتمائها الديني فقط، وإنما لانتمائها للإنسانية قبل كل شيء.
ثلاث شخصيات أسوقها في هذا المقال ستبقى رمزاً للإنسانية، والشجاعة، ورفض الظلم، أولها ملك المغرب “محمد الخامس” (حكم من سنة 1929 حتى 1961) الذي رفض تسليم اليهود من مواطنيه إلى حكومة “فيشي” الفرنسية المحتلة للمغرب آنذاك، والتي كانت موالية للحكم النازي الألماني، وأرادت أن يمكنها الملك من مواطنيه اليهود كي يتم تجميعهم وإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال وأفران الحرق، فرفض محمد الخامس واستمات في رفضه، معتبراً نفسه ملكاً لجميع المغاربة، مسلمين ويهوداً، وهذه المواقف سجلها له يهود العالم، كما يهود المغرب، ودائماً ما يستحضرها أمين عام مجلس الطوائف اليهودية بالمغرب “سيرج بيرديغو” بكثير من الشكر والامتنان
. ثاني الشخصيات الثلاثة هو الملك الدنماركي “كريستيان العاشر” (حكم من سنة 1912 حتى وفاته سنة 1947) الذي رفض بدوره إبان الحرب العالمية الثانية تسليم اليهود من مواطنيه للاحتلال الألماني، حيث تذكر المصادر التاريخية أن مجرد تفكير الألمان في مناقشة موضوع التسليم مع الحكومة الدنماركية كان كفيلاً بخلق التوترات وإثارة القلاقل التي لن تكون في صالح ألمانيا، بل تكونت لجنة شعبية سرية، بمباركة الملك، لتهريب الآلاف من اليهود الدنماركيين عبر البحر إلى السويد التي كانت حينها تتخذ موقف الحياد.
ثالث الشخصيات هو الدبلوماسي السويدي “راؤول والنبرغ غوستاف”، الذي تم تعيينه سكرتيراً أولاً للبعثة الدبلوماسية لبلاده في العاصمة المجرية بودابيست، وكان حينها بالكاد قد تجاوز عقده الثالث بسنتين، حيث تزعم مبادرة إنسانية لإنقاذ أرواح اليهود من منطلق إنساني بحت، أسفرت عن نجاة مائة ألف شخص يهودي من المحرقة النازية، بفضل جوازات السفر السويدية التي كان يستخرجها وتسلم لهم، ويعتبرون بسببها من المواطنين الذين ينتظرون العودة إلى وطنهم السويد، وهذا ما حدا بالصحفي والمؤرخ الألماني إلى وصف راؤول بـ ” الشاب الذي قرر أن ينذر نفسه لخدمة الإنسانية “.
هي إذن نماذج لشخصيات قدمت للعالم دروساً في الإنسانية، والشجاعة، والتضحية، وغلبة الشعور الإنساني على غيره من الخلفيات الدينية أو الأيديولجية، ونتمنى ألا يخلو قلب امرئ في زمن الاقتتال والكراهية من اشتماله على هذه القيمة، قيمة “الإنسان”.
ـــــــــــــــــــــــــــ
د. ادريس أجمي
رئيس التحرير