“السوسيال” هيئة لحماية المجتمع
طغت على الساحة خلال الأشهر الأخيرة نقاشات حول أداء هيئة الحماية الاجتماعية السويدية المسماة “السوسيال”.
وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير مسبوق في إذكاء حدة هذا النقاش الذي بلغ حد التحريض على الدولة السويدية بدعوى “اختطاف الأبناء”، نقاشٌ تناقلته وسائل إعلام عالمية مدفوعة في معظمها بأجندات سياسية تبعاً لمصالح الدول الحاضنة أو الممولة لها، كما تم استغلال الموضوع من طرف جماعات وأشخاص يتخذون من ثقافة الاصطدام عقيدة لهم، ويبحثون ليل نهارعن كل شاردة أو واردة لعلها أن تسعف نظريتهم وتنتصر لإيديولوجيتهم، فكان انتزاع بعض الأبناء من آبائهم البيولوجيين القشة التي طال انتظار هؤلاء لها، وكاد مع تأخرها أن ينتكس فكرهم الذي عاني بالأمس القريب من الأفول والاضمحلال، خصوصاً مع بروز تيارات من جميع الأطراف الكونية تدفع باتجاه التعارف والتعايش.
وكان أجدر بهؤلاء أن يتحلوا بقليل من “إنصافٍ” يحول نقاشهم من رغبتهم الجامحة في “النقض” إلى دائرة معقولة يسلم بها جميع العقلاء وهي: “النقد”، وبين “النقض” و”النقد” كما بين سوء النية وحسنها، وبين المنهج العلمي والمكر الإيديولجي.
كان على هؤلاء عدلاً وإنصافاً أن يقروا أولاً بمركزية الدور الوطني لهذه المؤسسة ذات الوظائف القانونية والدستورية، مع ما توفره من حماية للفئات الضعيفة في المجتمع مادياً ومعنوياً؛ بما يشمل الحق في الكرامة وعدم إلحاق الأذى الجسدي والمعنوي بالمستضعف أياً كان، ولأن الهيئة ذات وظائف حمائية فهي لا تميز بين لون أو عرق أو دين أو خلفية جغرافية، وإنما بوصلتها الوحيدة هي تلك التي تقودها إلى نجدة “المستضعف” وليس غير “المستضعف”.
وإن كان ولابد من مقاربةٍ تروم فعلاً النفع والمصلحة، فإن النقاش كان عليه ألا يخرج عن إطار “المعالجة القانونية المحضة” للنظر في مدى سلامة “بعض الإجراءات الإدارية” ومدى مطابقتها مع القوانين السويدية ذات العلاقة، ولاشك أن النقاش إذا تم تأطيره في ظل هذه الحدود التقنية، فإننا حينها سنضيق الدائرة أمام المتلصصين المتسللين من ذوي الخلفيات الإيديولوجية الاصطدامية العدمية، وسنفسح المجال في المقابل لذوي الاختصاص من القانونيين والفقهاء الدستوريين لمعالجة “إجراء إداري” دون المس بنبل الوظيفة الوطنية السامية لهذه الهيئة الاجتماعية.
أقول “وظيفة نبيلة وسامية” لأننا إن قلبنا النظر في أقطار ومجتمعات لا يغاث فيها المستغيث، ولا ينقذ فيها المستنجد، ويترك فيها الضعيف لأمراض القوي الأرعن، حينها سيشيب شعر الولدان مما يقع من الكوارث التي تنزع من الإنسان صفة “الإنسان”! وأقرب مثال على هذا التوحش ما تناقلته وسائل عالمية من مختلف القارات وبجميع اللغات قبل أشهر قليلة عن ذاك الطفل البالغ من العمر سبع سنوات، والذي قاده قدره إلى الانتساب لأب بيولوجي متوحش، في بيئة شرق أوسطية رضع العديد من أبنائها حليب العنف والقساوة تجاه كل ضعيف، حيث أثبتت تحريات النيابة العامة أن المسمى “أباً” انتزع بعد الطلاق الولد وأخاه من أمه التي تملك حق الحضانة، غير أنها لم تكن تملك ظهراً قبائليا ولا عائليا ولا حتى سلطة حكومية تدافع عنها، نزع منها ولديها بالضرب وتحت التهديد بالقتل، لأنها لم تكن تملك سوى أما طاعنة في السن تنتظر بدورها اللحاق بأب متوفى، ثم ذهب بهذا الطفل ليعيش مع زوجته الثانية وأبنائها، فكان كالعبد الخادم وسطهم، لطالما لاحظ مدرسوه آثار السياط على جلده وعنقه رغم ارتداءه ثياباً بغطاء رأس في عز الصيف! واستمر التعذيب والضرب وآثار الخدش والعض والرفس لفترات، اضطر معها الطفل لترك البيت واللجوء إلى مخفر الشرطة طلباً لـ”الحماية”، غير أنه أعيد إلى والده رغم ترجيه عدم فعل ذلك لأن عودته تعني ببساطة “موته”! وأعيد الطفل لتلتحق به الشرطة هذه المرة لا للاستماع إليه، وإنما لاستلام جثته النحيفة الصغيرة! وقد أثبتت تحقيقات الطب الشرعي أن الطفل أجبر قبل وفاته من طرف زوجة الأب على تناول كميات كبيرة من الملح، وتم سكب كميات من الزيت في جوفه، ورش الملح على عينيه، أما جلده فأضحى خريطة لا معالم لها من السلخ والحرق والجلد! وبالفعل تم اعتقال المسمى “أبا” وزوجته لتطالب النيابة العامة بعد فوات الأوان بإنزال أقصى العقوبات عليها.
يحكي لي صديق آخر عن شاب يبلغ من العمر أربعاً وعشرين سنة، يتيه في الأزقة والطرقات، ويرمي ثيابه في مشهد صادم ومخجل أمام المارة، قصته أن الأب إذا عاقب الشاب خلال فترة طفولته كان كالوحش الهائج يرميه بما تقع عليه يده، ويعلقه من رجليه بشريط في سقف البيت، وفي مرة من المرات ضربه بحديدة على رأسه تسببت له في حمقٍ لازمه حياته كلها!
وللأسف أن البعض ممن قدم من مثل هذه البيئات المريضة؛ حتى وهو تحت سلطة وحماية الحقوق التي يكفلها الدستور السويدي، إلا أن جيناته ما تزال مشبعة بمغناطيس العنف والغلظة وقساوة القلب والطباع، إذ لم يتعلم قط أن اكتساب مهارات التربية مقدمة على الإنجاب، وأن الزواج مشروع قبل أن يكون حاجة بيولوجية.
إن “التوحش” و”التمدن” لا صلة لهما بالتدين، بل هما نتاج لمسارٍ تربوي طويل يتداخل فيه النفسي بالعلمي بالعائلي بالاقتصادي بالسياسي… إنهما نتاج لعلاقة ذات تركيبة بنيوية لمختلف العناصر المؤثرة، ولعل معظمنا يحفظ الحديث النبوي الشريف: ” إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه”، هل تساءل منا أحد: لمَ الفصل بين “دينه” و “خلقه”؟ أليس “الخلق” من “الدين”؟ الجواب: إن مطلق الدين يشمل بالضرورة مطلق الخلق، لكن “الدين” ليس هو “التدين”، الدين مطلق لأنه من عند الله، والتدين نسبي لأنه ممارسة بشرية، وقد تلتقي في طريقك شخصاً لا يتخلف عن حضور الصلوات في الجماعة، غير أنه في امتحان الأخلاق والإنسانية والرحمة صفر على الشمال!
إن هيئة “السوسيال” مؤسسة وطنية دستورية، بل هي مكسب مدني، لا ينبغي التفريط فيها ولا التشكيك في نبل رسالتها، لأنها ببساطة تحمي الضعفاء الذين لن يعدموا في زماننا هذا ما دام هناك مخلوق اسمه “الإنسان” تتفرع عنه بالحتم والإلزام “ظواهر غير إنسانية”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: د. ادريس أجمي
رئيس التحرير